الممرضة السعودية
نجيب الزامل - 27/03/1428هـ
صحيفة الإقتصادية الألكترونية
.. قبل أن أبدأ المقال، أروي لكم قصة حقيقية حدثت وقرأتها:
تزوج رجلٌ من ممرضةٍ، وكان يعيب عليها تأخرها في دوريات المستشفى، وقد كان يتحمل ذلك أحيانا، ولكنه لم يكن يتحمل أبدا أن تستقطع وقتهما الخاص لمساعدة الناس من الجيران، أو من العابرين أثناء تنزههما. يوما، كانا يسيران معا على الرصيف حين وقع فجأة رجلٌ مسنٌّ، وسمعا صراخا: "أبي.. إنه يموت، أنقذوني.." أفلتت الزوجةُ الممرضةُ يدَها من قبضةِ زوجـِها لتهرع لإنقاذ العجوز الذي يبدو أنه أصيب بعوارض جلطة قلبية، إلا أن زوجـَها أعادها بقوة قائلاً: "إن أصررتِ على إفساد وقتنا الآن، فالرجلُ يمكن أن يأتيه الإسعافُ في أي لحظة، فاعتبري أن علاقتنا انتهت". نظرت إليه بعتبٍ قوي، فلم تكن ترى من العالم إلا شيئا واحدا في هذه اللحظة.. أن رجلا سيموت، وأنها قادرة على إنقاذه. أسرعت بلا التفات، وعملت الإجراءات التي أسعفت المريض، وقام مشياً مع ابنه لسيارة الإسعاف التي وصلت بعد أن كانت الممرضة، قد أدت العمل الأهم. ما حدث بعد ذلك؟ سأكمل لكم.. ولكن بعد أن أقول ما أردت قوله أصلاً.
الممرضةُ السعودية قد تكون أكثر العاملات السعوديات اللاتي يستحققن أن أفخر بهن. أولا، أفتخر بهن لشجاعتهن لأنهن الرائدات، الفوجُ الأول من كل تاريخنا التي تقدم به فتيات على دراسة التمريض والعمل ممرضات في مجتمع ما زال يحمل استنكافاً، وقلة استمزاج، وسوء تقدير لمهنة التمريض، أضف عليه ما تسرح به بعض المخيلات من ما قد تتعرض له الممرضة أو تعرض نفسها له.. مع أن الممرضة السعودية دوما بكامل إهابها الديني، وخفرها الأنثوي، والتزامها الأخلاقي. الإقدام على التخطيط لمهنة التمريض دراسة،ً ثم عملاً يتطلبُ قلباً شجاعا وقادرا على الصمود، ومتصلا بمولد كبير يمده بطاقة متواصلة من تيارات البسالة. ثانيا، لأن الممرضة هي التي تقوم بالعمل الأهم، والأكبر والأثقل في التواصل بين الكادر الطبي، وبين المرضى، يكفي أنها تقوم بكل شيء. وأنت تعرف أن جهاز ضغط الجرس بجوار سرير المريض لم يوضع من أجل مناداة الطبيب.. أبداً. إنه من أجل شخص قد يكون أهم (أرجو عفو الأطباء..والطبيبات) وأقرب للمريض، وأوصل للعون.. من؟ الممرض أو الممرضة.
والممرضات السعوديات لم أرَ منهن (وسجلوني من روّاد زوار المستشفيات) واحدة قامت بعملٍ يدعو للغضب أو الانتقاد السافر. وفي الجانب المضيء شهدت بنفسي ممرضات سعوديات يقمن بأعمال تفوق مجرد عملهن بروحٍ متفانيةٍ ومحبةٍ تجعلك أسير تلك اللحظة، ورهينَ دمعةٍ تقول لك إن هذه البنت، هذه الممرضة تثبتُ ما نقول بأن الدنيا بخير..
"رواء" ممرضة بالتخصصي بالرياض.. في قسم الأطفال المصابين بأمراض الرحمة. كانت تغني لكل طفلة، لكل طفل حتى يناموا.. ولا أنسى صغيرة تعالج بالكورتيزون، وجاءت غرفتنا يوما، وسألتها الوالدة: كيف حالك؟ وردت بصوتٍ كصوت الصافرة المخنوقة: أنا يمه، قال لي الطبيب إني سأفقد سمعي (بسبب الجرعات الكبيرة من الكورتيزون كما عرفت) .. وواصلت: "أنا لست خائفة يمّه، ولكني خائفة أني فقدت سمعي فلن أستطيع سماع صوت خالة "رواء" وهي تغني!" وذابت قلوبنا معها قبل أن يذوب سمعها.
.. أنا في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام، في الانتظار بغرفة الرجال، ونسمع صراخَ رجلٍ في الردهةِ يريدُ حماما ليقضي حاجته، ويبكي رغم عمره الكبير: "يا ربي لا تخجلني أمام الناس، أريد الحمام". وصل صاحبُ الصوتِ وإذا هو مريضٌ كبيرُ السن، وتدفعه ممرضة سعودية شابة رصينة الحجاب، على كرسي ويبدو أنها بالغة الخفر والحياء، وواضح أنها احتارت مع مريضها (ولنسمّهِ العم يعقوب).. فهي لا تستطيع أن تأخذه إلى دورة مياه غرفة انتظار النساء، ومحرجة جدا أن تمرّ بين الرجال لتأخذه إلى دورة مياهها.. ولما اشتد صراخُ العم يعقوب، عزمت بلا تردد ودخلت بيننا، وفتحت بابَ دورة المياه ليحاول العم يعقوب أن يقضي حاجته، ولكن تأخر الوقت وتأوّه خجلا.. فدفعته البنتُ قائلة: "وصلنا يا عم يعقوب"، وأخذت بسرعة الشرشف المبلل من تحته وأخفته.. ثم وقفت وكأنها تريد أن تقول لنا إنها يجب أن تدخل دورة المياه كي تتفقد مريضـَها، لتطلب منا ألا يدخل أحد. لم تستطع أن تنطق، ولكننا فهمنا.. فدخلت لتغير له. ثم أخرجته نظيفاً برداءٍ جديد، وهي تطمئنه أن كلَّ شيءٍ مرّ على ما يُرام.. ثم دفعت الكرسي إلى الردهة واختفت مع مريضها.. كما اختفى صوتُ الصراخ!
أكمل لكم القصة التي بدأت بها:
بعد خمس سنوات اتصل الرجل بزوجته السابقة الممرضة، وأخبرها أنه ندم ندما لن يعوَّض عن تركه لها. سألته لماذا الآن يعترف؟ ردّ وهو يبكي: "كنت أسير مع أبي، ثم وقع من عوارض جلطة.. ثم مات. ولم يكن بجانبي أحد كي ينقذه!"
وش رايــــــــــــــــــــــ ـكم؟؟
نجيب الزامل - 27/03/1428هـ
صحيفة الإقتصادية الألكترونية
.. قبل أن أبدأ المقال، أروي لكم قصة حقيقية حدثت وقرأتها:
تزوج رجلٌ من ممرضةٍ، وكان يعيب عليها تأخرها في دوريات المستشفى، وقد كان يتحمل ذلك أحيانا، ولكنه لم يكن يتحمل أبدا أن تستقطع وقتهما الخاص لمساعدة الناس من الجيران، أو من العابرين أثناء تنزههما. يوما، كانا يسيران معا على الرصيف حين وقع فجأة رجلٌ مسنٌّ، وسمعا صراخا: "أبي.. إنه يموت، أنقذوني.." أفلتت الزوجةُ الممرضةُ يدَها من قبضةِ زوجـِها لتهرع لإنقاذ العجوز الذي يبدو أنه أصيب بعوارض جلطة قلبية، إلا أن زوجـَها أعادها بقوة قائلاً: "إن أصررتِ على إفساد وقتنا الآن، فالرجلُ يمكن أن يأتيه الإسعافُ في أي لحظة، فاعتبري أن علاقتنا انتهت". نظرت إليه بعتبٍ قوي، فلم تكن ترى من العالم إلا شيئا واحدا في هذه اللحظة.. أن رجلا سيموت، وأنها قادرة على إنقاذه. أسرعت بلا التفات، وعملت الإجراءات التي أسعفت المريض، وقام مشياً مع ابنه لسيارة الإسعاف التي وصلت بعد أن كانت الممرضة، قد أدت العمل الأهم. ما حدث بعد ذلك؟ سأكمل لكم.. ولكن بعد أن أقول ما أردت قوله أصلاً.
الممرضةُ السعودية قد تكون أكثر العاملات السعوديات اللاتي يستحققن أن أفخر بهن. أولا، أفتخر بهن لشجاعتهن لأنهن الرائدات، الفوجُ الأول من كل تاريخنا التي تقدم به فتيات على دراسة التمريض والعمل ممرضات في مجتمع ما زال يحمل استنكافاً، وقلة استمزاج، وسوء تقدير لمهنة التمريض، أضف عليه ما تسرح به بعض المخيلات من ما قد تتعرض له الممرضة أو تعرض نفسها له.. مع أن الممرضة السعودية دوما بكامل إهابها الديني، وخفرها الأنثوي، والتزامها الأخلاقي. الإقدام على التخطيط لمهنة التمريض دراسة،ً ثم عملاً يتطلبُ قلباً شجاعا وقادرا على الصمود، ومتصلا بمولد كبير يمده بطاقة متواصلة من تيارات البسالة. ثانيا، لأن الممرضة هي التي تقوم بالعمل الأهم، والأكبر والأثقل في التواصل بين الكادر الطبي، وبين المرضى، يكفي أنها تقوم بكل شيء. وأنت تعرف أن جهاز ضغط الجرس بجوار سرير المريض لم يوضع من أجل مناداة الطبيب.. أبداً. إنه من أجل شخص قد يكون أهم (أرجو عفو الأطباء..والطبيبات) وأقرب للمريض، وأوصل للعون.. من؟ الممرض أو الممرضة.
والممرضات السعوديات لم أرَ منهن (وسجلوني من روّاد زوار المستشفيات) واحدة قامت بعملٍ يدعو للغضب أو الانتقاد السافر. وفي الجانب المضيء شهدت بنفسي ممرضات سعوديات يقمن بأعمال تفوق مجرد عملهن بروحٍ متفانيةٍ ومحبةٍ تجعلك أسير تلك اللحظة، ورهينَ دمعةٍ تقول لك إن هذه البنت، هذه الممرضة تثبتُ ما نقول بأن الدنيا بخير..
"رواء" ممرضة بالتخصصي بالرياض.. في قسم الأطفال المصابين بأمراض الرحمة. كانت تغني لكل طفلة، لكل طفل حتى يناموا.. ولا أنسى صغيرة تعالج بالكورتيزون، وجاءت غرفتنا يوما، وسألتها الوالدة: كيف حالك؟ وردت بصوتٍ كصوت الصافرة المخنوقة: أنا يمه، قال لي الطبيب إني سأفقد سمعي (بسبب الجرعات الكبيرة من الكورتيزون كما عرفت) .. وواصلت: "أنا لست خائفة يمّه، ولكني خائفة أني فقدت سمعي فلن أستطيع سماع صوت خالة "رواء" وهي تغني!" وذابت قلوبنا معها قبل أن يذوب سمعها.
.. أنا في مستشفى الملك فهد التخصصي بالدمام، في الانتظار بغرفة الرجال، ونسمع صراخَ رجلٍ في الردهةِ يريدُ حماما ليقضي حاجته، ويبكي رغم عمره الكبير: "يا ربي لا تخجلني أمام الناس، أريد الحمام". وصل صاحبُ الصوتِ وإذا هو مريضٌ كبيرُ السن، وتدفعه ممرضة سعودية شابة رصينة الحجاب، على كرسي ويبدو أنها بالغة الخفر والحياء، وواضح أنها احتارت مع مريضها (ولنسمّهِ العم يعقوب).. فهي لا تستطيع أن تأخذه إلى دورة مياه غرفة انتظار النساء، ومحرجة جدا أن تمرّ بين الرجال لتأخذه إلى دورة مياهها.. ولما اشتد صراخُ العم يعقوب، عزمت بلا تردد ودخلت بيننا، وفتحت بابَ دورة المياه ليحاول العم يعقوب أن يقضي حاجته، ولكن تأخر الوقت وتأوّه خجلا.. فدفعته البنتُ قائلة: "وصلنا يا عم يعقوب"، وأخذت بسرعة الشرشف المبلل من تحته وأخفته.. ثم وقفت وكأنها تريد أن تقول لنا إنها يجب أن تدخل دورة المياه كي تتفقد مريضـَها، لتطلب منا ألا يدخل أحد. لم تستطع أن تنطق، ولكننا فهمنا.. فدخلت لتغير له. ثم أخرجته نظيفاً برداءٍ جديد، وهي تطمئنه أن كلَّ شيءٍ مرّ على ما يُرام.. ثم دفعت الكرسي إلى الردهة واختفت مع مريضها.. كما اختفى صوتُ الصراخ!
أكمل لكم القصة التي بدأت بها:
بعد خمس سنوات اتصل الرجل بزوجته السابقة الممرضة، وأخبرها أنه ندم ندما لن يعوَّض عن تركه لها. سألته لماذا الآن يعترف؟ ردّ وهو يبكي: "كنت أسير مع أبي، ثم وقع من عوارض جلطة.. ثم مات. ولم يكن بجانبي أحد كي ينقذه!"
وش رايــــــــــــــــــــــ ـكم؟؟